m

فئة :

2012 Apr 19

شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة

أكَّدَ سعادة الدكتور راشد المبارك، الأديب والمفكر السعودي المعروف، أنَّ الغفلة وغفوة العقل البشري لفتراتٍ طويلة واعتمادنا على النقل أكثر من العقل كان دافعًا لخوضه في غمار الفلسفة بحثًا عن الحلول المناسبة والسُّبُل التي تمكِّننا من إعمال العقل, فكانت الفلسفة هي المجال الذي كرَّس جهوده فيه ليرفد الساحة الثقافية والفكرية بكتابه الذي صدر حديثًا عن دار القلم بدمشق بعنوان: “شموخ الفلسفة وتهافُت الفلاسفة” والذي كان عنوانًا لمحاضرة ألقاها في خميسية حمد الجاسر الثقافية ضمن أنشطتها في دارة العرب في يوم الخميس 27 جمادى الأولى 1433هـ الموافق 19 أبريل 2012م، والتي أدارها سعادة الدكتور عزالدين موسى عميد كلية العلوم الإستراتيجية في جامعة نايف للعلوم الأمنية.

وأكّد الـمُحاضر أنه وصل إلى هذه النتائج بعد النظر المعمَّق في أعمال ستةٍ من الفلاسفة من حِقَبٍ مختلفة في تسلسلٍ زمني، متناولاً كلَّ واحدٍ منهم في فصلٍ قائمٍ بذاته، واقفًا عند آرائه الرئيسية، ناقدًا لها نقدًا داخليًّا، موضِّحًا ما فيها من تناقُض، وصولاً إلى النتيجة النهائية.

هكذا كان حاله مع أفلاطون في “المثل العليا”، وأرسطو في آرائه عن الطبيعة وما وراءها، وديكارت ومنهج الشك والإيمان، وسبينوزا وإطاره الهندسي الرياضي، وكانط في نقد العقل وادِّعائه مع تناقُضه الظاهر، وأخيرًا شوبنهاور ونظراته في الشفقة والأنانية، وقد خلص الـمُحاضر إلى أنَّ العقل في جميع هذه الحالات يُثبت الشيء ونقيضه، فتساءل مندهشًا: هل يمكن أن تكون العقول الكبيرة هي الأقدر على الوقوع في الأخطاء الكبيرة؟ وهل العقل شاهد زور؟ وكان هذا الموضوع هو محور الفصل السابع من الكتاب.

وقد لاحظ مدير المحاضرة العلاقة الوثيقة بين الفيلسوف وبيئته، وتأثيرها في فكره، كما في حالتَي أفلاطون وكانط، وتساءل:ألا يعني ذلك أنَّ الفلسفة متغيِّرة, ومن ثّمَّ فإنَّ شموخها نسبي؟ وإذا كانت الفلسفة مُدرَكًا عقليًّا فهل الـمُدرَك منعزل عن المدرِك؟ وكيف يكون الأول شامخًا والآخر متهافتًا؟ لكنّ المحاضر أوضح أن الفلسفة هي أداة نظر تعني البحث عن الحقيقة أو حبّ الحكمة وأي نتاج لهذا العمل فهو فكر فلسفي قابل للتغير مع الأزمنة والأشخاص والمعطيات الأخرى.

وأثار الـمُحاضر استشكالاً مهمًّا، وهو عدم تأثُّر الفلسفة والمعتَقَدات الإغريقية بالحنيفية واليهودية, وعدم وجود إشارة إليهما عند أولئك الفلاسفة قبل المسيح عليه السلام. والسؤال هو: هل أشار أولئك الفلاسفة إلى غير بني جنسهم، وهنالك ما يُثبت أنهم لم يذكروا بعض بني جنسهم؟ وقد أشار الـمـُحاضر في كتابه إلى أنهم عرفوا عقيدة التناسخ وهي عقيدة هندية، وأخذ فيثاغورس ببعض أسرار النحلة, و يُرَجَّح أنَّ الأورفية أخذت كثيرًا من الديانات الشرقية والمصرية، ولم يذكروا الحنيفية واليهودية, وهذا ما يزيد الإشكال قوةً وحيرة, وتساءل: لماذا ظاهرة الإغفال للغير؟! ألا يؤكد هذا تهافُت الفلاسفة؟!

وذَكَرَ الـمُحاضر أنه قسَّم كتابه إلى مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، فكشف في المقدمة عن منظوره الذي هو نتاجُ تأمُّلٍ في قراءاته في الفلسفة لأكثر من ثلاثين عامًا، فاندهشَ للمفارقة العجيبة بين الفلسفة- التي هي تأمُّلٌ محضٌ قائمٌ على مسلَّمات العقل الأوَّلية، طلبًا للحقيقة، وتوخِّيًا للحكمة- وبين نهج كل الفلاسفة -باستثناء سقراط- الذي يقوم على أسلوبٍ تقريريٍّ وثوقي بادِّعاء أنَّ ما وصل إليه كلٌّ منهم هو الحقُّ المحض، وأنه قد كشف الحقيقة المحجوبة بعد نقده لمن سبقوه (مثل نقد أفلاطون لسقراط، وشوبنهاور لكانط). وهكذا ظهرت لدى الـمُحاضر المبايَنة بين منهج السالكين (الفلسفة) ومنهج الواصلين (الفلاسفة), ومن هنا ذهب إلى القول بشموخ الفلسفة وتهافُت الفلاسفة.

وفي الختام فُتح المجال للمشاركات والمداخلات التي أثرَت الموضوع، ومنها مداخلة الدكتور عز الدين موسى مدير المحاضرة الذي أشار إلى أنَّ هذا الكتاب عملٌ متفرِّد، وجديدٌ من نوعه، نظر إلى الفلسفة بمنهجٍ مغايرٍ لـِمَا درج عليه الناس، فخلُص إلى نتائج مهمة تؤكد نسبية الآراء الفلسفية، وأثار إشكالاً لم ينتبه إليه الدارسون من قبل مع أنَّ له قدره الكبير في ميزان الفكر، فحسبُه هنا تلك اللفتة إلى العقل الذي يُثبت الشيء وضده, و أنَّ المنهج التقريري الوثوقي مُخلٌّ بالمعرفة وبه تجفُّ منابع التساؤلات والاستشكالات والسعي إلى معرفة المحجوب عن الإنسان في نفسه وفي الكون الذي حوله، وفيما وراء الكون المؤثِّر فيه. وفي ختام مداخلته خلُص إلى أنَّ كتاب “شموخ الفلسفة وتهافُت الفلاسفة” جديرٌ بالقراءة، ويدعو إلى متابعة البحث في موضوعه, وحَسْبُ هذا فضلاً لمؤلفه الذي ديدنه فيما يكتب أو يحاضر أو يناقش أن يكشف الـحُجُب، ويثير الأسئلة المنسية أو الـمُتغافَل عنها أو غير المتوقَّعة. ومداخلة الدكتور عبدالعزيز الهلابي الذي تساءل عن ازدهار الفلسفة وهي عمل عقلي عند الإغريق في الوقت الذي ازدهرت فيه الميثيولوجيا القائمة على الخرافات والأساطير، كما طرح استفسارًا حول موقف المسلمين من الفلسفة، وقد شارك الدكتور عبدالله العثيمين بتقديم وجهة نظره بأن الفلسفة ربما تكون مرتبطة بالنخبة لدى الإغريق والميثيولوجيا مرتبطة بالشعب. وحفلت المحاضرة بمداخلات عديدة وتجاوب معها المحاضر بما أثرى اللقاء الفكري المتميز.