m

فئة :

2019 Nov 06

رؤية قرآنية للسنن الإلهيّة للتّاريخ البشريّ

أشار الأستاذ الدكتور عزالدين موسى إلى أن هناك مفارقة كبيرة بين اكتشاف الحضارة المعاصرة لسنن الله في الأكوان وتسخيرها لمصلحة الإنسان، وبين عدم استبصارها لسنن الله في الإنسان، وهذا ما يفسح الطريق للفكر الإسلامي المعاصر لينطلق برؤية وسطية مبصرة لسد الفجوة بين الحالين: الأكوان والإنسان؛ لأن تلك السنن الإلهية موجودة في الحقيقة الموحاة، قرآنًا وسنة. جاء ذلك في محاضرة بعنوان: “رؤية قرآنية للسنن الإلهيّة للتّاريخ البشريّ: دراسة أوّليّة”، ألقاها في مجلس حمد الجاسر بإدارة: د.عبدالرحمن الرحمة؛ ضحى السبت 19 ربيع الأول 1441هـ الواقع في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019م.

ونوّه المحاضر إلى السنن الكونية في الحقيقة الموحاة موجودة، ولكنها مفقودة في الممارسات العلمية، وأن السنن الإنسانية في واقع الأمة مفقودة، وأصابها غبش شديد، وحجبها غطاء سميك في مسيرة الأمة التاريخية؛ لذا فإن الأمة قبل إسهامها في ركب الإنسانية تحتاج إلى استجلاء الأولى، وإزالة الغبش، وكشف الغطاء عن الثانية؛ مؤكدًا بأن هذا يحتاج إلى جهد فكري يقوم على تنقية تلك الحقيقة الموحاة من أدران الفكر البشري الذي ران عليه تأويلاً وتطبيقًا عبر العصور المتطاولة؛ فأبعدها عن رسالتها التي جوهرها لعبادة الرحمن تكريم الإنسان، بمنهج وسطي قوامه التبشير لا التنفير واليسر لا العسر، وإعمار الأرض بالإحسان والاستفادة من سنن الله في الأكوان، وبهذا تكون الأمة صالحة في نفسها وقدوة لغيرها.

وأشار إلى أن الرؤية القرآنية للتاريخ البشري تختلف عما في الرؤية التاريخية التقليدية اختلافًا جذريًا؛ لأن الأولى حقائقها قطعية؛ لأنها موحاة، وفي الثانية نسبية بمقدار ما توفره المصادر البشرية، علاوةً على أن الثانية تسعى لتركيب صورة الأحداث من معلومات ناقصة، بينما الأولى تتناول العبرة من تكلم الأحداث من دون النظر إلى تفصيلاتها، وتزداد هذه المسألة تعقيدًا في المسائل المستقبلية في عالمي الشهادة والغيب المتعلقة بالمآل.

وأوضح أن الرؤية التاريخية التقليدية تختلف عن الرؤية القرآنية للتاريخ البشري في مآلات الناس في مسألتين جوهريتين: الأولى: أن التقليدي ينطلق من واقع معلوم نسبيًا إلى واقع مأمول افتراضي في الدراسة الاستراتيجية، وينطلق من واقع افتراضي إلى مستقبل افتراضي أيضًا في الدراسات المستقبلية؛ لهذا فإن الرؤية التقليدية غير يقينية، بينما الرؤية القرآنية يقينة في الحاضر والماضي المستصحب، وفي المآلات في عالم الغيب؛ لأن المعلومات يقينية، والنتائج قطعية ثابتة لا تتغير؛ إذ إن العلاقة بينهما سببية موحدة لا تداخلها ريب.

وأشار إلى أن القرآن ليس بكتاب تاريخ تقليدي؛ لأنه لا يُعنى بالتثبت من الحقائق التاريخية الجزئية، ولا استقصائها، ولا بناء صورة متكاملة للحدث التاريخي المعين في الماضي وحده، ولكن الحقيقة الموحاة؛ قرآنًا وسنة، تستجلي العبرة من ذلك الحدث الذي لا تتكامل قصته في مكان واحد من التنزيل الحكيم، وإنما تجري تلك العبرة وفقًا لسياق السورة المعنية أو أجزاء أو جزء منها محدد فيظنه البعض تكرارًا وما هو بتكرار إذا عرف الهدف، أو الأهداف؛ لأنه يروم إلقاء ظلال في النفس معينة، وإحداث مشاعر في القلب محركة في لحظة ما طلبًا لنتيجة ما؛ لتحقيق الغاية المنشودة من المسيرة البشرية في الرؤية القرآنية.

ثم تحدث عن مصطلحات السرد القرآني من مصطلح “الأخبار” إلى مصطلح “القصص”، قصص الرسل والقرى والأمم، ومصطلح “الأنباء” مستفيضًا؛ ليدل على أن المفهوم القرآني للتاريخ البشري هو المسيرة من البداية إلى النهاية، موضحًا بأن المعلومات في القرآن الكريم تختلف كمًا ونوعًا باختلاف مراحل المسيرة البشرية من مبتدئها إلى منتهاها ممثلة في الأقسام الثلاثة لآيات الكتاب المبين: أحكام ترمز إلى الرسالة وتطبيقاتها، وتجارب السابقين للاعتبار والاتعاظ؛ حيث وضح أن الرؤية القرآنية للتاريخ البشري تنطلق من رسالة يراد تحقيقها باستصحاب تجارب السابقين، وكسب الناس في الحياة الدنيا وجزائهم في الآخرة؛ ثم تحدث عن المرسلين ومفردات الرسالة؛ إذ إن الرسالة واحدة والمبلغين عن ربهم عدة والمتلقين كثر.

وفي ختام المحاضرة أشار إلى أن الرؤية القرآنية للتاريخ البشري تمثّل نظرة شاملة من خلق الإنسان إلى يوم المعاد؛ لأن المسيرة من البداية إلى النهاية شاقة ومتعثرة وفيها سقوط وقيام، وعلو وهبوط، وصراع بين الإنسان والشيطان، وأفعاله ممثلة في أسباب الإخفاقات في سائر المجتمعات، وتستفيق فتعلو ثم تهبط إلى نهاية المسير، والناس ما زالوا مختلفين ولذلك خلقهم؛ لهذا فإن هذه الرؤية تجسد مسيرة البشر التاريخية حلقة من الإخفاقات تعقبها نجاحات، ثم تليها إخفاقات ثم نجاحات في سلسلة لا تنتهي إلا يوم الميعاد، وعليه فإن التغيير الإيجابي من أهم السنن الإلهية في تاريخ البشر.

تلا ذلك مداخلات وأسئلة الحضور، تفضل المحاضر بالرد عليها.

جدير بالذكر يقدّم د. علي بن عبدالله الدوسري ضحى السبت القادم 26 ربيع الأول 1441هـ الواقع في 23 تشرين الثّاني (نوفمبر) 2019م، محاضرة في مجلس حمد الجاسر بعنوان: “تطبيقات نظم المعلومات الجغرافية والمجتمع”.