m

فئة :

2015 Apr 11

التطور والتخلف على خط التماس: مثال من مدينة حدودية مقسمة بين دولتين

أوضح الدكتور جاسر الحربش بأن الأنماط السياسية والطرق الإدارية المقيدة بمرجعيات سياسية مركزية هي التي تتحكم في إمكانيات القوة والضعف والتطور والتخلف عند الأمم والشعوب، ولا علاقة للأصول العرقية ولا الاختلافات البيولوجية ولا حتى الجغرافية والمناخية، جاء ذلك في محاضرة بعنوان: “التطور والتخلف على خط التماس: مثال من مدينة حدودية مقسمة بين دولتين” ألقاها في مجلس حمد الجاسر يوم السبت 22 جمادى الآخرة 1436هـ الموافق 11 نيسان (أبريل) 2015م، وأدارها الدكتور سليمان المحيَّا.

سلَّط الدكتور الضوء على كتاب بعنوان: “لماذا تفشل الأمم، أصول القوة والازدهار والفقر” والذي يقدم تحليلاً مكثفًا عن أسباب القوة والضعف في المجتمعات بمجهود عالمين من أساتذة الاقتصاد أحدهما البروفيسور دارون عاصم أوغلو، أمريكي من أصول تركية، يعمل في معهد ماساشوست للتقنية والمؤلف الآخر هو البروفيسور جيمس. أ. روينسون، أستاذ العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة هارفرد.

مشيرًا إلى أن الفصل الأول في الكتاب يبدأ بقصة مدينتين كانتا يوما ً ما مدينة واحدة حتى عام 1821م، ثم انفصلتا إلى اثنتين، واحدة أمريكية والأخرى مكسيكية. وجاء فيه أن ثمة حاجزًا في الوسط يقسم مدينتي نوغالس، وعندما تقف أمام الحاجز وتنظر نحو الشمال ترى نوغالس / أريزونا / الأمريكية متوسط الدخل للأسرة في هذه المدينة يبلغ حوالي ثلاثين ألف دولار في السنة، وأغلب الشباب فيها يذهبون للمدارس، وأكثر البالغين معهم الشهادة الثانوية،و رغم ادعاءات السكان بقصور العناية الصحية، إلا أنهم يتمتعون بصحة جيدة وبمتوسط أعمار مرتفع؛ أغلبهم تعدى الخامسة والستين ومسجل في التأمين الصحي، وهذه فقط إحدى الخدمات التي تقدمها الحكومة الأمريكية لهم ويعتبرونها من البديهيات، مثلها مثل الكهرباء والتلفون والصرف الصحي وشبكة المواصلات التي تربطهم ببعض وبالداخل الأمريكي، أهم من ذلك تمتعهم بحماية النظام والقانون في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمارس المواطنون في نوغالس- أريزونا أعمالهم بدون الخوف على حياتهم والقلق من السرقات ومصادرة الممتلكات الشخصية، وبالرغم من التذمر من بعض نواحي القصور وبعض مظاهر الفساد، إلا أن سكان نوغالس أريزونا يعتبرون إلتزام الحكومة الأمريكية بمصالحهم من الأمور البديهية، وأصبحت الديموقراطية الأمريكية بالنسبة لسكان نوغالس أريزونا جزءا ً من اللحم والدم.

ولكن عند إدارة النظر نحو جنوب الخط الفاصل ترى نوغالس / سونورا التابعة لدولة المكسيك، بالرغم من وقوع نوغالس سونورا في جزء يعتبر معيشيا ً لا بأس به بالمقاييس المكسيكية، إلا أن متوسط الدخل العائلي فيها لا يتعدى ثلث مثيله في نوغالس أريزونا المجاورة، حيث إن أغلب السكان البالغين فيها لم يحصلوا على التعليم الثانوي، والكثير من الشباب لا يذهبون للمدارس، وفي هذه المدينة تتعايش الأمهات مع نسبة عالية من وفيات الأطفال، وسوء الخدمات الصحية فيها يزيل كل إمكانيات التعجب من تدني أعمار سكانها مقارنة بسكان نوغالس أريزونا المجاورة،وأوضاع الشوارع في مدينتهم في منتهى السوء، ومتطلبات الأمن والنظام مصادر يوميه للانزعاج، والجريمة هناك منتشرة، والمغامرة بافتتاح مشروع تجاري خاص مدعاة للخطر، وليس على الإنسان فيها أن يتحسب للسطو المسلح فقط، ولكن عليه أيضا ً أن يدفع الرشوة لكل الموظفين الذين تمر عليهم أوراقه لتصريح بمشروع تجاري خاص، مواطنو نوغالس سونورا يتعايشون يوميا ً مع ارتشاء وتدني كفاءة الموظفين والسياسيين الممثلين لهم في الدولة.

ثم تساءل بعد المقدمة الوصفية للأوضاع المتعاكسة تماما ًلمدينتين متلاصقتين: كيف يتأتى أن تكون هذه الاختلافات الكبيرة موجودة في الحيز الجغرافي الواحد؟. لا يوجد بين المدينتين أي فوارق جغرافية أو مناخية، واحتمالات التعرض للاجتياحات المرضية واحدة لأن الجراثيم لا تعترف بالفواصل السياسية، وسكان المدينتين يعودون لنفس الأصول، وقد كانت المنطقة بكاملها تابعة للمكسيك، حتى انتقلت ملكية القسم الشمالي منها للولايات المتحدة الأمريكية عام 1821 م.

وفي ختام المحاضرة أشار إلى أن الفارق الأكثر أهمية ً، يتضح أن تبعة نوغالس أريزونا للدولة الأمريكية فتحت الأبواب لمواطنيها للمشاركة في أنماط وفرص الحياة والتطور الأمريكية، أما تبعية نوغالس سونورا فجعلت سكانها يخضعون لفرص وأنماط متخلفة، مثلما هو سائد في بقية البلاد المكسيكية؛ ثم فُتح المجال للمداخلات التي أثرت الموضوع والأسئلة التي تفضل بالرد عليها.