د. الخضر عبدالباقي: لمحاتٍ عن الأدب الأفريقي العربي
استعرض الدكتور الخضر عبد الباقي محمَّد -مدير المركز النيجيري للبحوث العربية وأستاذ الإعلام الدولي بكلِّية الإعلام والاتصال في جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية- لمحاتٍ من الأدب الأفريقي العربي، وتحدَّث عن سماته ووقف مع مصطلحاته وتكوينه وتطوُّره، جاء ذلك في محاضرةٍ ألقاها في مجلس حمد الجاسر يوم السبت 28 جُمادى الأولى 1438هـ الموافق 25 شباط (فبراير) 2017م، وأدارها الدكتور إبراهيم السماعيل.
وأشار المحاضر إلى أنَّ أفريقيا -ومنطقة الغرب الأفريقي تحديداً- تحفل بالعديد من المؤلَّفات القيِّمة، منها الآثار العلميَّة التي لا تزال مغمورةً، وهي لا تقِلُّ روعةً عمَّا تركه علماء العرب، بل يُمكِن القولُ بأنَّ من بين تلك الآثار العلميَّة والأدبيَّة ما يختلف عن الروائع التي خلَّفها العلماء والأدباء العرب من حيث الكمِّ والنوع، موضحًا أنَّ لكلِّ منطقة أفريقيَّة خصائصَها الجغرافيَّة والتاريخيَّة والثقافيَّة التي تَجعلُ الاختلافَ بينها وبين غيرها من مناطق القارَّة واقِعاً لا يمكن إنكارُه.
وبيَّن أنَّ رحلةَ الشعر العربي من الجزيرة العربية إلى ربوع الشام ومصر، ثم السودان والأندلس، أكسبتْهُ خصائصَ لم تكن متوفِّرة فيه في بيئته الصحراوية، فلقد تشبَّع بكثيرٍ من صُوَر التعبير، وأساليب البناء، وضروب الأخيلة، فتوسَّعتْ آفاقُه، وتعدَّدتْ ألوانُه، ورقَّتْ حواشيه، وتهذَّبتْ آليَّاته، نتيجةً لثراء البيئة الطبيعية التي استقرَّ فيها الشعراء وتنوُّعها.
وأضاف: إنَّ المتتبِّع لخريطة الشعر الأفريقي يجد نوعاً من التفاوُت بين اتجاهاته ومساراته، ويجد في هذه الاتجاهات والمسارات أجواءً شعريةً مختلفة، وصوراً تعبيريةً متباينة، على حدِّ ما ذهب إليه أستاذ الأدب العربي في جامعة نيامي الدكتور يوسف مكيلا حيث قال: "ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ الازدهارَ الذي حدث للأدب العربي في الأندلس قد حدث في أفريقيا أيضاً ازدهارٌ موازٍ له، سواء من حيث جودة الإنتاج، أو تعدُّد الأغراض الشعرية، وإنْ كان ثمَّة فرقٌ فيكون في الظروف البيئية والتاريخية التي من شأنها أن تطبعَ أدبَ أمَّةٍ بمميِّزاتٍ خاصَّةٍ بها".
وعن المعاني الجديدة في الشعر العربي الأفريقي تحدَّث المحاضر عن التطوُّرات التي حصلت لذلك الشعر، وبالأخصِّ ما أُنشِدَ تعبيراً عمَّا وقع من الأحداث الخاصَّة المختلفة في حياة الشعراء، ومن المعاني الجديدة والطريفة في هذا الشعر نَظْرَتُهم الفلسفية إلى الحياة التي جاءت في صورة اليقين والتأكيد.
وأوضح أنَّ تكوين الشاعر الأفريقي بالعربية لا يصل إلى التعبير باللغة العربية إلاَّ بعد أن يمرَّ بمراحلَ متدرِّجة، ويبدأ التكوينُ اللغوي والأدبي العربي عند الأديب الأفريقي من دراسة علوم اللغة العربية، مثل متن الآجرومية في النحو، وعلم العَروض والقافية في الشعر، ويأخذ تكوينُه اللغوي والأدبي منحىً أدبياً، يتمثَّل في تعرُّف الشعر والنثر من المعلَّقات السبع ومقامات الحريري، وإلى هنا تقريباً يتوقَّف تكوينُه العلمي، ثم يوسِّع ثقافته الذاتية بنفسه من خلال أمَّهات الكتب المعروفة في ذلك العهد، كفِقْه اللغة للثعالبي، وكتاب سيبويه، والقاموس المحيط، وهي مرحلة كبار العلماء، وبالجملة لا يستوي تعبيرُه الأدبي إلاَّ بعد أن يدرُس علوم اللغة العربية، ويطَّلع على أمَّهات كتب اللغة والمعاجم المعتَبَرة، ويصقل مواهبَهُ بالتمرُّس على أساليب العرب في التعبير، هذا كلُّه خلافاً للشاعر العربي.
وأوضح أنه على الرغم من أنَّ الشعراء الأفارقة من الجيل الأول لم يتعرَّضوا كثيراً لوصف الطبيعة، ولا اهتمُّوا في الغالب بوصف حيوانات بيئتهم، فإنَّ قصائدهم تناولت الموضوعات التي تناولها الشعراء العرب قديماً، فوصفوها كما وصفها هؤلاء الشعراء، وبرعوا في وصف الناقة والفرس كما برع العرب في وصفها.
ثم تحدَّث عن خصائص الشعر العربي الأفريقي وسماته، ومنها أنه يستوحي الطابع التقليدي للشعر العربي، ويستخدم مخزوناً ثرياً من التقانات الشعرية، وعدداً كبيراً من الأشكال الشعرية، وهو في غالبيته مصادرُ إلهامه واهتماماتِهِ دينية، تسري النغمة الدينية في غالبية موضوعاته الرئيسة بالطريقة نفسها التي تسيطر فيها نغمة الحماس على شعر الجهاد والحرب، ويكاد يكون صدى لأقدم موروثات الشعر العربي أكثر مما هو صدى للشعر العربي المعاصر غير الأفريقي، وهو بعيدٌ عن التعقيد الفلسفي والفِكْر العميق، وقريبٌ من العفوية والبساطة، ويتجنَّب التصنُّع، ويتميَّز بالفصاحة، وأحياناً بالغرابة، على نقيض شعرهم التعليمي والوعظي الذي امتاز بلغةٍ شعبيةٍ يفهمها جمهورهم.
ومن ناحية أوزان هذا الشعر، بيَّن المحاضر أنه من النادر أن يبتعد شعرهم عن استخدام الأوزان البسيطة، وتتكرَّر لديهم أكثر الأوزان المفضَّلة في الشعر الغنائي، أي البسيط والطويل والكامل والوافر والخفيف، وهي ذاتها الأوزان المفضَّلة لدى كبار شعراء العربية كما أشار أبو العلاء المعرِّي، كما تمسَّكوا بقواعد التقفية في الشعر العربي.
وفي ختام محاضرته عرجَ إلى وقفة نقدية للشعر الأفريقي بالعربية، واستعرض نماذج منه، وقال إنه يلمس بصفة خاصَّة عنايةً واضحةً بالصناعة اللفظية، ووَلَعَاً بالغريب المهجور من الكلام، ولا يكاد يعثر على تصويرٍ حيٍّ لخبرةٍ شخصية، أو تعبيرٍ مؤثِّرٍ عن الوجدان، أو وصفٍ رقيقٍ للذات الشاعرة المنفعلة، لذلك كان من أبرز الملاحظات على النتاج الشعري للشعراء الأفارقة سيادةُ التكوين اللغوي على التكوين الأدبي لديهم، وتكفي نظرةٌ إلى سلسلة الكتب التعليمية التي كانت مقرَّرةً على طلاَّب العلم لإدراك ذلك، فالتعليم العالي، الذي كان يتمُّ في المجالس العلمية، لم يكن يستهدف سوى تكوينٍ لغويٍّ يُزَوِّدُ المتعلِّمَ بثروةٍ قاموسيَّةٍ كافية، وذلك من خلال كتب اللغة المعروفة مثل مختار الصحاح، والقاموس المحيط، وفِقْه اللغة للثعالبي، ومقامات الحريري، فسادَ الاهتمامُ بالصنعة اللفظية وغلبَ على الإنتاج الأدبي الإفريقي، وسيطر أسلوبُ المقامات على الشعراء الأفارقة لدرجةِ أنَّهم لم يتخلَّصوا من سيطرة الحريري حتى في عصور ازدهار أدبهم.