الحرف العربي فلسفة النشأة وجمال التكوين

عدّ أستاذ اللغة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الدكتور محمود عمار، دخول اللغة العربية إلى قاعات الأمم المتحدة ولجانها ومحاضرها، والاعتراف بها لغة رسمية على المستوى الدولي، انتصاراً كبيراً للغة العربية، وكسباً معنوياً منحها اعترافاً دولياً. وقال عمار، في محاضرة بعنوان «الحرف العربي فلسفة النشأة وجمال التكوين» ألقاها صباح أمس في مجلس حمد الجاسر الثقافي، وأدارها الدكتور صالح الغامدي: إن القرار الأممي أعاد اللغة العربية لمكانتها التي تتمتع بها في عصور سلفت في زمن تغيرت فيه المعايير، وإقراراً بأن فيها مصادر مدخرة للثقافة العالمية، وتقديراً لتاريخها الزاخر بالإنتاج والعطاء، وإبرازاً لمكانة الأمة العربية في المحيط الدولي. وأضاف: ليس هناك شك في أن اعتماد الأمم المتحدة اللغة العربية لغة رسمية بين لغاتها الرئيسة، يدعو سائر المنظمات التابعة لها لإفساح المجال لاعتمادها والاعتراف بها، مشيراً إلى أن منظمة «اليونسكو»، بوصفها راعية للتربية والثقافة والعلوم على مستوى العالم، نفذت مجموعة مبادرات تهتم بمختلف اللغات بوصفها وعاءً للثقافة والعلوم، ومصدراً للتفكير والتعاطي العلمي والإبداعي ووسيلة للتعبير عن الحضارات المختلفة، والتنوع التراثي بين الأمم والشعوب. وعن الحروف الأبجدية في اللغة العربية، أوضح عمار أن كثرتها أو وفرة المخارج فيها لا يمنح اللغة العربية ميزة معينة، لافتاً إلى هناك لغات كثيرة تتفوق عليها عددياً مثل الصينية أو الروسية أو اليابانية، ولكن وفرة المفردات وثراء اللغة، والقدرة على التعبير عن الخواطر، والوفاء بمطالب البحث والعلم، هي ما يميزها وذلك لا يتوقف على عدد حروف الهجاء. وتابع قائلاً: كما لا ينبغي أن ننسى أن الحرف في اللغة العربية تعتريه الحركات الثلاث، أو يخلو منها، فكأنه أربعة أصوات، وكأن الحروف المذكورة هي 112 حرفاً، وإذا كان (بَ بُ بِ بْ) عند العربي حرفاً واحداً تغيرت حركته، فإن من لا يعرف العربية يسمع أربعة أصوات، وليس صوتاً واحداً، ولو أضفنا حروف المد لأنها من جنس الحركة، فستتضاعف هذه الحروف، ولعل في هذا الاختصار المتضمن التفريع يكمن وجه من وجوه إعجاز هذه اللغة العبقرية. وشدد عمار على أن الحرف العربي يتسم بالمرونة وقابلية التشكيل الجمالي، حتى أصبح من أهم مصادر الإبداع والفن في الحضارة العربية، زخرفت به الصفحات وأغلفة المجلدات، وكتب على الجدران، والمحاريب وسقوف المساجد، وحلوق القباب، وعقود الأعمدة، والأبواب والنوافذ، وشواهد القبور، وغيرها، وما فيه من طواعية جعله يتشكل في عديد من اللوحات الفنية التي يعبر عنها بأنواع الخطوط المختلفة. وقال إن فنون الخط ازدهرت في مصر لأن فيها معلمين منتصبين لتعليم الخط، يلقون على المتعلم قوانين وأحكاماً في وضع كل حرف، على حد تعبير ابن خلدون، وفي بلاد الشام والجزيرة العربية وشمال إفريقيا، وتنشط الأيدي البارعة في التشكيل والفن، وتلمع أسماء فنانين مختصين في كل الأقطار، وتعقد المسابقات، وتقام المعارض في كثير من المناسبات والعواصم، وتلقى رواجاً حتى في الدول الأوروبية، ممن يستمتعون بتشكيلات الحرف العربي، وإن لم يتعلموا قراءته، مشيراً إلى أن الأوروبيين افتتنوا بالحرف العربي في الماضي، منذ أقدموا على تعلم العربية في مدارس قرطبة بالأندلس، ونقلوا إليها كثيراً من تراثهم، وكتبوا بها بعض شعرهم ونثرهم، وأدعية صلواتهم، «واضطر رجال الكنيسة إلى تعريب مجموعاتهم القانونية لتسهيل قراءتها في الكنائس الإسبانية»، مبيناً أن الفنان الإسباني ما زال يتأثر بالخط العربي فيما يبدع من لوحات يقوم بتسويقها على أفواج السائحين التي تقصد بلده. غير أنه كشف عن تقلص انتشار الحرف العربي في آسيا إلى سدس ما كان عليه تقريباً، بعد أن كان مسيطراً على أكبر قارات العالم مساحة وسكاناً، وإفريقيا البكر السمراء كذلك. وقال: ليس ذلك لضعف هذا الحرف أو عدم ملاءمته، أو عدم قدرته على المواجهة والمنافسة، ولكن تعرض لعقبات، أهمها انحسار أثر العرب في العالم الحديث، وتغير الموقف من تراثهم وثقافتهم، واحتلال الشعوب الضعيفة، وترويج المحتل للغته وتشويه الثقافات المحلية، وظهور دعوات قومية ووطنية وإحياء التراث المحلي، وعدم وجود دعم وتوعية كما حدث في الصومال العربية منذ 1992م، وتقليد الغرب والسير في ركابه كما حدث في البوسنة لانتمائها إلى أوروبا، والهزائم والانكسارات التي هزت بعض الشعوب وخلخلت القيم والثوابت فيها كما حدث في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، والتوجهات السياسية كما حدث في مؤتمر «اليونسكو» في باماكو في مالي سنة 1968م ودعوة الدول الإفريقية إلى التحول للحرف اللاتيني، والقرارات الرسمية التي اتخذتها بعض الدول كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق سنة 1938م حين اتخذ قراراً تحولت بمقتضاه 22 لغة من العربية إلى الروسية.