صحيح البخاري: قراءة في التّاريخ والنّقد

فصّل فضيلة الدكتور عبدالسلام الشويعر تاريخ تدوين السنة إلى مراحل؛ جاءت أُولاها مرحلة (التلقي) التي اختصت بالصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، تلتها مرحلة (الأداء) للصحابة بعد وفاته، ثم مراحل التابعين، وتابعي التابعين، وركز في محاضرته على مرحلة كتابة صحيح البخاري في عهد تابعي التابعين؛ جاء ذلك في محاضرة بعنوان: «صحيح البخاري: قراءة في التّاريخ والنّقد» ألقاها في دارة العرب، وأدارها الدكتور عبدالعزيز الخراشيّ، يوم السبت 18 جمادى الآخرة 1440هـ الواقع في 23 شباط (فبراير) 2019م. وقبل أن يبدأ المحاضر بسرد تاريخ البخاري على هيئة موضوعات ونقاط عامة، بدأ بالحديث عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في عهده، وما أيده الله من المعجزات التي تدل على صدقه، ومن أعظمها القرآن الكريم في بيانه ونظمه ومعناه، حيث تحدى الله به فصحاء العرب أن يأتوا بمثله أو بسورة، وعجزوا أن يأتوا بذلك، وهي المعجزة الباقية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وأعطاه الله بعد القرآن السنة، حيث سمى الله السنة وحيًا، حيث قال: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحيٌ يوحى). لذا جاء في القرآن مليئًا بالأمر باتباعها، وجاء أكثر من 850 آية كلها تأمر باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه وإطاعة أمره واتباع ما جاء عنه، ولما كان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه من القواعد المقررة عقلاً قبل أن تكون مقررة شرعًا، كان نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم من الضرورة واللازم، فجاء الإلزام به في القرآن وفي السنة (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة). والمراد بالحكمة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية). فدل ذلك على أنه يبلغ عنه، وهذا تقرير حُجِّيَّة السنة، ولم يخالف فيها أحد من المسلمين البتة على شتى طوائفهم ونِحَلِهم وفِرقهم. ثم تحدث الدكتور الشويعر عن كيفية تدوين السنة وكتابتها من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقسَّمها إلى خمس مراحل: الأولى مرحلة تلقي الصحابة للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، مستعرضًا صفة التلقي من الجيل الأول، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، وفي جميع الأديان يكون أصحاب النبي وحواريه هم أفضل الناس وأقربهم، حيث يكون المؤسسون هم أكثر الناس قناعة للفكرة، وكان الصحابة حريصين أشد الحرص على تعلم السنة وتحملها، حيث يسمعون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فينقلونه، وكانوا يكثرون جدًا من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لاستخباره وسماع قوله وأحكامه. وبيَّن أمرين: أن هذه المرحلة وهي مرحلة التلقي اختصت بخصيصة واضحة جدًا، ستكون مؤثرة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابة الحديث عنه، فقد ثبت أنه قال: «لا تكتبوا عني. ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج»؛ وذلك ليعتمدوا على الحفظ والتلقي، فنُسخ هذا النهي في آخر حياته، حيث قال صلى الله عليه وسلم قبل وفاته: «اكتبوا لأبي شاه»، فكتب لعلي كتابًا في الديون وكتب الصحابة عنه، فقد كتب أنس عنه أحاديث متعددة. وقالوا إن هذا النهي ليس نهي تحريم، بدليل أنه كُتب قبل الإذن العام، لكن هذا النهي لفائدتين عامتين: قالوا إنه كان الكُتَّاب قِلَّة، وقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأمة أميَّة، وكان الذين يكتبون للنبي صلى الله عليه وسلم يكتبون القرآن له والقرآن الذي ينزل عليه، فخشية من أن يختلط القرآن بالسنة، أو وهَمٍ قد يقع من الكاتب أو غيره، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة ، فلا يبقى من هذه الصحف إلا القرآن، فلما نزل القرآن كاملاً في حجة الوداع أذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة عنه، والفائدة الثانية التي جاءت للنهي لكي يُعرف أن من خصائص هذا الدين والشريعة أن ما يُأخذ بالتلقي وما ينقل بالسماع، وهذه خصيصة من خصائص العلم الشرعي الذي لا يوجد في غيره من العلوم، ومن تميّز علوم الشريعة الإسناد. أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة (الأداء)، وهي مرحلة الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث نقلوا الأحاديث بعد وفاته. وتميزت هذه المرحلة بميزات؛ منها: أنه لم يكن يحدِّث في عهدهم إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أهل العلم والقرَّاء والمذكِّرون إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عدولاً. ودل عليها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالعدالة، ومن ميزتهم أنه كان عندهم قدرة على الحفظ، هذه القدرة كسبوها من جهتين: من جهات بيئية، ومن جهة متعلقة بطبائعهم، وهي قدرتهم على الحفظ، لمكوناتهم البيئية والثقافية. ومن ميزات تلك المرحلة: ما يسمى بالرقابة المجتمعية، والرقابة الذاتية حيث كانوا رضي الله عنهم يتحرجون أشد التحرج من الحديث، فكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا حدَّث بالحديث وقف حتى يتأكد أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق به، وكانوا إن تحدث أحدهم بحديث غريب أنكروا عليه قوله. ثم تحدث المحاضر عن المرحلة الثالثة، وهي مرحلة (التابعين)، الذين جاؤوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه المرحلة تميزت بالبحث عن الأسانيد. ولم تأت فكرة الأسانيد إلا في عهدهم، وقد أمر بإيجادها الصحابة بعد أن ظهرت الفتنة، وفي تلك المرحلة بدأ الحديث في نقد الرجال، ومن ميزات تلك المرحلة أنه كان فيها نهضة علمية، وخصوصًا من غير العرب، فأغلب الذين نقلوا العلم من طبقة التابعين ومن بعدهم كلهم ليسوا من العرب، سواء كانوا مواليَ أو غيرهم، وهي ميزة تلاقُح الثقافات، فكانوا يحرصون على التميّز، وفي عهدهم بدأت كتابة حديثة النبي صلى الله عليه وسلم وبكثرة، وبدأ تدوين الكتب. ثم تحدث عن المرحلة الرابعة، وهي مرحلة (تابعي التابعين). وهؤلاء مشوا على نهج سابقيهم، وإن كانت هذه المرحلة امتازت بكثرة الأمصار، ولكن تميزت بثلاث ميزات: الاستقرار السياسي، والتفرغ للعلم، فأصبح تابع التابعين متفرغًا للعلم، فكثر التأليف في هذه المرحلة؛ وظهرت كتب االحديث لكبار المحدثين؛ كمالك بن أنس ، وعبدالرزاق بن همام الصنعاني، وعبدالله بن وهب المصري، فكانوا يسمون الموطأ؛ لأنه يسهل العلم. وتأليفهم في هذه المرحلة عَيبَ عليه أمران: الأول: أنه لم تنضج عندهم فكرة التأليف، فالإمام مالك مثلاً كان يعيد كتابه أكثر من مرة في التقديم والتأخير، ولذلك كان في كل رواية يزيد وينقص، وما زال يُسمع كتابه إلى أن مات. الثاني: أنهم كانوا يدمجون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بآثار التابعين، مثل ما فعل الموطأ وعبدالرزاق. وختم الدكتور الشويعر المحاضرة بالحديث عن المرحلة الخامسة في عهد البخاري وهي مرحلة تابعي التابعين الذين يسمونهم علماء الحديث ثلاثيات؛ فالبخاري له ثلاثيات في الصحيح وفي غيره، وهم من طبقة تابعي التابعين، وهؤلاء تميزوا بميزات في تأليفهم، حيث ازدهر في وقتهم التأليف؛ إما على هيئة مسانيد أو على هيئة سنن، وإما على أحاديث متعلقة بموضوع واحد، فبدؤوا يتفننون في جمع الأحاديث وسياق الأسانيد لكثرة الأسانيد المروية، ففي هذه المرحلة جُمعت أهم، وكان مجمل الأحاديث التي جمعها العلماء وكانت في ستة كتب، كتاب للبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، لكل واحد منهم كتاب وهؤلاء من بلدان متعددة. وهذه الأحادث هي التي عليها العمدة في الأحكام، واختتم حديثه بالتوسع بقضية البخاري الذي يُعتبر رجل من رجال هذه المرحلة الخامسة (تابعي التابعين) وفي وقت الازدهار والتأليف في الكتاب الذي سماه "الجامع"، وسموه بعده "صحيح البخاري"؛ جمع في هذا الكتاب الحديث المتفرق، وكانت الأحاديث متفرقة في صحف وبعضها مروية، واختار من المتفرق ما كان صحيحاً، ولم يشترط جمع كل الصحيح، وإنما يجمع أحاديث صحيحة دون ما عداها، ومن ميزته أنه إذا كان الحديث مرويًأ بالمعن،ى فإنه ينتقي من ألفاظ الحديث ما كان أدلَّ على المعنى المراد، ومن ميزته أنه لم يكن كتابه باجتهاد فردي منه فحسب، بل قد يصدق عليه أنه كان يشاور في كثير من الأحدايث كثيرًا من المشايخ، وقد مكث في تأليف هذا الكتاب 16 سنة، وأخرجه ثلاث مرات والفروقات بين الإخراجات الثلاث قليلة جدًا. وقال المحاضر الناس أصبحوا يتفاخرون بهذا الكتاب، ويكثرون من نسخه. وفي وقتنا هذا جمع بعض الباحثين نحوًا من خمسة آلاف نسخة من كتاب البخاري، فانتشرت هذه النسخ انتشارًا كثير جدًا، وشُرح بعده شروحات كثيرة، فبعض الباحثين عد الشروحات ووصلت إلى 400 شرح. ومن عجائب هذا الكتاب ظهور فن في علم الحديث، وهو فن المستخرجات، وهو أن يأتي العالم الذي أدرك البخاري، ثم يأتي لكل حديث من أحاديث البخاري ويرويها بأسانيده، وأصبح هذا الصحيح يُقرأ وبكثره، وقال إن كثرة النسخ والقراءة والشروحات وفي السماع للحديث حتى الآن هذه جعلت أحاديث البخاري يجزم العلماء جميعًا، ومثله بقية الكتب الستة، أنها قد وصلت إلى مرحلة التواتر بعد مؤلفيها، وأجمع علماء الفن بصحته، وقال: ماذا لو أن البخاري لم يؤلف هذا الصحيح، أو لو أن هذا الصحيح عُدم سيصبح كل حديث من هذا الكتاب مدونًا في عشرات، وبعض الأحاديث، في مئات الكتب التي أُلفت قبله.