مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأنماط الحراك العلميّ
افتتح الدكتور عبدالله أباحسين محاضرته بالحديث عن البدايات الأولى لتلقّي التعليم في الكتاتيب، ومدى تلبيتها لحاجة الناس، والتكاليف الباهضة لنسْخ الكتب، وكيف ظهرت مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، جاء ذلك في محاضرة ألقاها في مجلس حمد الجاسر يوم السبت 25 صفر 1440هـ، الواقع في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018م، وأدارها د. عبدالعزيز الخراشي.
وأشار المحاضر إلى أنه عندما انتشرت مؤلفات الشيخ تحت ظلّ الإمام محمد بن سعود وبنيه؛ لم تكن كلّها في متناول متداوليها من الناس لكنّها كانت محفوظة، ومُتاحة، وتجري على أعين العلماء وبعنايتهم إلى أن تعرّض جيش الدولة العثمانيّة ابتداءً من سنة 1226هـ 1811م، إلى استهداف العلماء، كما استُهدفت كتب العلم بنقلها أو حرق ما لم يستطع الجيش حمله منها.
وأوضح بأن هناك أمرًا آخر حصل على الحراك العلمي وأثّر فيه، وهو إفساد الأرض التي ينبت فيها ويشتدّ عوده؛ فإنّ الجيش المعتدي فرّق البلدان والقبائل والحاضرة والبادية بعد اجتماعها، وزرع قيادات مُستقلة في كلّ بلد، وقتل القيادات السّابقة، وقتل إمام المسلمين عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود سنة 1233هـ 1818م، وهو ما أدى إلى فساد الأرض الصّالحة لنبات العلم؛ لأنّ الحراك العلمي له قوانين في حركته وقوّته، وبينه وبين الأمن والحراك الاقتصادي والاجتماعي علاقة طرديّة، فكلما زاد الأمن والاجتماع والاقتصاد؛ زاد الحراك العلمي، والعكس بالعكس، ويدلّ على ذلك استقراء التاريخ، وتأمّل حال من سلف.
ونبّه المحاضر إلى أمرين مُهمّين في شأن بداية طباعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب آنذاك:
الأمر الأوّل: أنّ الشيخ عبدالله بن عبداللطيف اختار الهند البعيدة جدّاً لأسباب أهمّها: أنّ الهند لم تُحارب دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولم يكن للدولة العثمانية سيطرة عليها. أمّا الدولة العثمانية، فكانت تحارب كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، واستشهد بما كتبه أحمد علي في مقال نُشر سنة 1377هـ 1958م بعنوان (ذكريات)، ذكر فيه أنّ الدولة العثمانيّة كانت تُحرّم كُتُب العقيدة السلفية ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما وتمنعها، وأنّ بعض هذه الكُتب قدمت من الهند؛ فأقامت عليها الدّولة العثمانيّة حراسةً مشدّدة، ثمّ مزّقتها وحرقتها على مرأى مفتيها.
الأمر الثاني: أنّ الحراك العلمي في نجد لم يتأثّر بالطباعة بعد استخدامها من قبل القيادات العلميّة النّجديّة، ويُثبت ذلك: بقاء عمليّة النّسخ في حراك مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيره في نجد إلى ما بعد مُنتصف القرن الرابع عشر الهجري؛ فسليمان بن سحمان ظل ينسخ الكتب إلى أن كُفّ بصره سنة 1331هـ 1913م، والشّيخ عبدالله بن ابراهيم الربيعي، النّاسخ المشهور الذي اعتمد عليه العلماء الكبار في نجد، نسخ إلى قرابة سنة 1360هـ 1941م، بل إنّ الرّبيعي نسخ سنة 1320هـ 1902م كتاباً عن مطبوع، وهو كتاب (أربح البضاعة في معتقد أهل السنّة والجماعة)، ووجدنا مخطوطاً لكتاب سراج الملوك نسخه الشيخ عبدالعزيز بن عامر عن مطبوع، وقد توفي ابن عامر سنة 1356هـ/ 1937م.
وأشار المحاضر إلى أنه عندما استعاد الملك عبدالعزيز الرياض سنة 1319هـ/ 1901م، تسارعت البلدان النّجديّة في الدّخول في طاعته، ثمّ شرع في توطين البادية سنة 1330هـ/ 1912م، واستعاد ملك الأحساء سنة 1332هـ/ 1914م، وبسطَ الأمن في مفاوز مملكته وقراها، وصلحت البلاد لزرع العلم في ظلّ الأمن والتلاحم بين القُرى والبلدان؛ وتهيّأت للحراك العلميّ من جديد، وجمع البلدان بعد تفرّقها، وبدأ أوّلاً بدفع الحراك العلمي السّلفيّ، والردّ على مُعارضه من خلال طبعه للكتب، حيث بدأ الملك عبدالعزيز سنة 1340هـ/ 1922م طباعة الكتب في مصر.
وقال المحاضر: إنّ الحراك العلمي في نجد وعسير والأحساء بدأ يتأثّر ويتغيّر بفضل الملك عبدالعزيز وإمداده بالمطبوعات التي أوقفها لله تعالى؛ حيث اهتمّ أيضًا في ذات الفترة 1923-1933م بغير كُتُب أئمّة الدّعوة السّلفيّة في نجد، ودفع بكُتب في فنون مهمّة؛ ثم تحوّل الحراك العلمي إلى نمطٍ جديد، ودخلت المصاحف ورسائل في أصول الدّين في كتاتيب الصبيان، وصار في يد كلّ قاضٍ في البلاد كثير من الكتب، منها: المغني لابن قدامة، ولأوّل مرّة يتوفّر كمٌّ كبير من الكتب لطالب العلم بهذه الصورة، ولأوّل مرّة أيضًا تكون مجموعة كبيرة من مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب بين يديه دَفعةً واحدة، وكلّ هذا قبل اكتشاف النفط سنة 1352هـ/ 1933م، ولا يصحّ أن يُقال إنّ الملك عبدالعزيز دفع الحراك العلمي بهذه الاستماتة سياسةً، وإنّما رسالةً، فهو صاحب أهداف، واستعادة ملك آبائه وأجداده هدف، وجمع البلدان والقبائل بعد تفرّقها هدف، والأمن هدف، وبعث الحراك العلمي السّلفي الواسع كذلك هدف.
وفي الختام تحدث الدكتور عبدالله أبا حسين عن تزامن المتغيّر الكبير على الحراك العلمي بمتغيّر كبير في الأرض التي يتحرّك فيها العلم وتتحرّك فيها المطبوعات؛ وتغيّرت تفاصيل الحياة بدخول وسائل النّهضة الحديثة، ودخول الكهرباء، وبتغيّر وسيلة الحصول على الماء، ثم حلّ التعليم النّظامي محلّ الكتاتيب، وتوسّعت العمليّة التعليميّة جدّاً، وفي ضمنها التعليم الشّرعي، وكثرت الكُتب في أيدي الصبيان والشباب الصّغار في مرحلة التعليم الابتدائيّة والمتوسّطة والثانوية، ودخل التعليم العالي الجامعي، وسيطر الفصل بين العلوم على العمليّة التعليمية، وطالت العلم الشّرعي.