المعضلة الأساسية التي تُعاني منها المجتمعات العربية هي ثقافية بامتياز
تحدَّث الدكتور خضر الشيباني عن المعضلة الثقافية في التكوين العربي، متقصِّيًا طبيعة إشكالية التنمية ودواعيها، وأهمية استجلاء سُبُل الخروج من مأزقها، وفَحْص هواجس المثقَّفين وهموم المفكِّرين بحثًا عن الحلقة المفقودة وسعيًا لتوليد نَبْض الفاعلية في المجتمعات العربية، وحَلّ إشكالية الثقافة الملازِمة للمجتمعات منذ قرون، مستعرضًا منهجيَّة كتابه "إكسير التنمية" الذي يهدف إلى تأصيل الثقافة العلمية في المجتمعات العربية، جاء ذلك خلال محاضرةٍ ألقاها في مجلس حمد الجاسر يوم السبت 16 ربيع الآخِر 1438هـ الموافق 14 كانون الثاني (يناير) 2017م بعنوان "إكسير التنمية والهاجس اللغوي"، وأدارها الدكتور يحيى أبو الخير.
وتناول المحاضِر أسباب القصور البيِّن في المجتمعات العربية وسبب فشلها الذريع في محاولاتها المتكرِّرة والمتبايِنة لتأسيس نهضة وتحقيق تنمية عَبْر قرنَيْن منذ ما عُرف باسم "عصر النهضة"، وقال إنَّ المدارس الفكرية والأنظمة السياسية والخطط الاقتصادية بأطروحاتها النهضوية والتنموية المتعدِّدة لا تزال عاجزة عن تغيير الواقع العربي وإخراجه من مأزقه التنموي.
وأشار إلى أنَّ الأُطُر المتداخِلة لثالوث (التنمية والثقافة والعلم) هي التي اهتمَّ في كتابه بتحليلها واستكشاف أبعادها وبَلْوَرة مقوِّماتها، موضحًا أنه منذ قرنَيْن من الزمن كانت ولاتزال القضية الكبرى في حياة المجتمعات العربية هي قضية النهضة، وكانت ولاتزال الأسئلة الكبرى هي أسئلة النهضة، ومن كلِّ ذلك انبثقت إشكاليَّة النهضة وفي طيَّاتها إشكاليَّة الأصالة والمعاصَرة، وقال إنها تُمثِّل التشابُك المعقَّد بين تداعيات وجدانية، وتداخُلات تراثية، وقضية الهويَّة والدفاع عنها ضدَّ "الفكر الغازي" القادم من الغرب؛ ويحدُث كلُّ ذلك في الوقت نفسه الذي تظلُّ فيه معطيات ذلك الغرب -على مختلف الأصعدة- مثالاً مطلوبًا في التنمية ونموذجًا مرغوبًا في النهضة.
وأضاف: على الرغم من اختلاف الموارد وتبايُن تركيبة المجتمعات وتعدُّد الأنظمة في دول العالم الثالث، إلا أنها جميعًا كانت حريصةً على تفعيل الخيار العلمي- التقني، ومواكبة متطلَّبات العصر الحديث، ولكنَّها في غالبيَّتها الساحقة -باستثناء حالتَيْن أو ثلاث- فشلت في تحقيق الأهداف المنشودة في نَقْل مجتمعاتها إلى صفوف المجتمعات القادرة على تحقيق الحدود الدُّنيا من الكفاءة الاقتصادية والتقنية الفاعلة والحِراك العلمي النَّشِط، وبعد عقود من الزمن، وخطط لا تنتهي في مجالات التنمية، وبرامج طَمُوحة في التعليم والتدريب والتصنيع؛ ظلَّت المجتمعات النامية -ومنها المجتمعات العربية- تُراوِح في مكانها، لتجد أنَّ الفجوة بينها وبين الدول المتقدِّمة تتَّسع، وأنها تقف موقف المستهلِك الذي يشكو دومًا مِن ضَيْم المنتِج وغَزْوه الاقتصادي والعسكري والفكري.
وأوضحَ أنَّ المعضلة الأساسية التي تُعاني منها المجتمعات العربية هي معضلة ثقافية بامتياز، ولكنَّ الثقافة المطلوبة ليست أيّ تخرُّصات ثقافية، أو إرهاصات فكرية، أو مُزايَدات لفظية غائمة عائمة في سماء ملبَّدة بالإجهاضات والنكسات والإحباطات، ولكنَّها -بالضرورة- ثقافة ذات نكهة خاصَّة ومزايا محدَّدة ومقوِّمات واضحة، تحقِّق الاستجابة اللازمة لطبيعة التحدِّي القائم وتتوافق مع روح العصر، ولذا اهتمَّ بسَبْر العيوب البنيوية في الثقافة العربية، ليؤكِّد أنها في مُجمَلها مسؤولة عن تفاقُم إشكالية التنمية.
واستعرضَ في ختام محاضرته نماذج متنوِّعة لمقولات عدد كبير من المثقَّفين والمفكِّرين العرب ورُؤَاهم وهم يتطارحون هذا الهمَّ التنموي المؤرِّق، مشيرًا إلى أنَّ حقيقتَيْن تتجلَّيان في تلك الاستشهادات والأطروحات، الأولى وجود نماذج تُفصِح في عموميَّتها عن المشهد الثقافي العربي الذي لم يتغيَّر كثيرًا على مدى قرنَيْن من الزمن، ممَّا يمثِّل جزءًا جوهريًّا من الأزمة، وأمَّا الحقيقة الثانية فتوضِح درجة التوتُّر والتأزُّم التي بلغتْها حال المجتمعات العربية وهي تبحث عن مَنْفَذ إلى نهضة لم تتحقَّق، وتطرح رُؤَى تنموية لاتزال في مصافِّ التخيُّلات، وتستنجد بمحاوَلات لم تُفْلِح في الهروب من المأزق الذي أَسَرَ الثقافة العربية وقيَّد حركتَها، ففشلت في إحداث النقلة النوعية في حياة الأمَّة، ليس فقط نتيجةً للقصور في منهجيَّتها أو في وقوعها أسيرةً للخطاب الثقافي العربي المأزوم، بل الأهمّ من ذلك إغفالها لطبيعة الديناميكية العالمية في روح التنمية، وكذلك إهمالها لخصائص التحديث الحقيقي عند التحدُّث عن بناء الإنسان العربي القادر على الإنتاج والتعمير والإنجاز.